فصل: فَصْلٌ: مَحَلُّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ في التَّضْحِيَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: مَحَلُّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ في التَّضْحِيَةِ:

وَأَمَّا مَحَلُّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ جِنْسِ الْمَحَلِّ الَّذِي يُقَامُ مِنْهُ الْوَاجِبُ وَنَوْعِهِ وَجِنْسِهِ وَسِنِّهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ؛ أَمَّا جِنْسُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ الْغَنَمِ أَوْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ، وَيَدْخُلُ فِي كُلِّ جِنْسٍ نَوْعُهُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْهُ وَالْخَصِيُّ وَالْفَحْلُ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْزُ نَوْعٌ مِنْ الْغَنَمِ، وَالْجَامُوسُ نَوْعٌ مِنْ الْبَقَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُضَمُّ ذَلِكَ إلَى الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيّ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْشِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِالْإِيجَابِ إلَّا فِي الْمُسْتَأْنَسِ؛ فَإِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْوَحْشِيِّ وَالْإِنْسِيِّ فَالْعِبْرَةُ بِالْأُمِّ فَإِنْ كَانَتْ أَهْلِيَّةً يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا حَتَّى إنَّ الْبَقَرَةَ الْأَهْلِيَّةَ إذَا نَزَا عَلَيْهَا ثَوْرٌ وَحْشِيٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُضَحَّى بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْبَقَرَةُ وَحْشِيَّةً وَالثَّوْرُ أَهْلِيًّا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَلَدِ الْأُمُّ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْ الْأُمِّ وَهُوَ حَيَوَانٌ مُتَقَوِّمٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ وَلَيْسَ يَنْفَصِلُ مِنْ الْأَبِ إلَّا مَاءٌ مَهِينٌ لَا حَظْرَ لَهُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَلِهَذَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، إلَّا أَنَّهُ يُضَافُ إلَى الْأَبِ فِي بَنِي آدَمَ تَشْرِيفًا لِلْوَلَدِ وَصِيَانَةً لَهُ عَنْ الضَّيَاعِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى الْأُمِّ.
وَقِيلَ إذَا نَزَا ظَبْيٌ عَلَى شَاةٍ أَهْلِيَّةٍ فَإِنْ وَلَدَتْ شَاةً تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهَا وَإِنْ وَلَدَتْ ظَبْيًا لَا تَجُوزُ، وَقِيلَ إنْ وَلَدَتْ الرَّمَكَةُ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ حِمَارًا لَا يُؤْكَلُ، وَإِنْ وَلَدَتْ فَرَسًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْفَرَسِ، وَإِنْ ضَحَّى بِظَبْيَةٍ وَحْشِيَّةٍ أُلِّفَتْ أَوْ بِبَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ أُلِّفَتْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا وَحْشِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ وَالْجَوْهَرِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْأَصْلِ بِعَارِضٍ نَادِرٍ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا سِنُّهُ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِنْ الْأُضْحِيَّةَ إلَّا الثَّنِيَّ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ إلَّا الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَاصَّةً إذَا كَانَ عَظِيمًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ضَحُّوا بِالثَّنَايَا إلَّا أَنْ يَعِزَّ عَلَى أَحَدِكُمْ فَيَذْبَحَ الْجَذَعَ فِي الضَّأْنِ» وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «يُجْزِي الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ عَمَّا يُجْزِي فِيهِ الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ».
وَرُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَشَمَّ قُتَارًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أُضْحِيَّةُ أَبِي بُرْدَةَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ، فَجَاءَ أَبُو بُرْدَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي عَنَاقٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُجْزِي عَنْك وَلَا تُجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ».
وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عِيدٍ فَقَالَ: إنَّ أَوَّلَ نُسُكِكُمْ هَذِهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ، فَقَامَ إلَيْهِ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَوْمُنَا نَشْتَهِي فِيهِ اللَّحْمَ فَعَجَّلْنَا فَذَبَحْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبْدِلْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي مَاعِزٌ جَذَعٌ فَقَالَ: هِيَ لَكَ وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ» وَرُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِغَنَمٍ جِذَاعٍ فَلَمْ تَنْفُقْ مَعَهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ» وَرُوِيَ: الْجَذَعُ السَّمِينُ مِنْ الضَّأْنِ؛ فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ هَذَا الْحَدِيثَ انْتَهَبُوهَا أَيْ تَبَادَرُوا إلَى شِرَائِهَا وَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْقُرْبَةِ بِسِنٍّ دُونَ سِنٍّ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ فَيُتَّبَعُ ذَلِكَ.
(وَأَمَّا) مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: الْجَذَعُ مِنْ الْغَنَمِ ابْنُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالثَّنِيُّ مِنْهُ ابْنُ سَنَةٍ، وَالْجَذَعُ مِنْ الْبَقَرِ ابْنُ سَنَةٍ وَالثَّنِيُّ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَالْجَذَعُ مِنْ الْإِبِلِ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ وَالثَّنِيُّ مِنْهَا ابْنُ خَمْسٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ فِي الثَّنِيِّ مِنْ الْإِبِلِ مَا تَمَّ لَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَ فِي الْخَامِسَةِ وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ فِي الْأَضَاحِيّ: الْجَذَعُ ابْنُ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ أَوْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الشَّاةِ وَالْمَعْزِ مَا تَمَّ لَهُ حَوْلٌ وَطَعَنَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِنْ الْبَقَرِ مَا تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَطَعَنَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَمِنْ الْإِبِلِ مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَطَعَنَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، وَتَقْدِيرُ هَذِهِ الْأَسْنَانِ بِمَا قُلْنَا لِمَنْعِ النُّقْصَانِ لَا لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ؛ حَتَّى لَوْ ضَحَّى بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ سِنًّا لَا يَجُوزُ وَلَوْ ضَحَّى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ سِنًّا يَجُوزُ وَيَكُونُ أَفْضَلَ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةَ حَمَلٌ وَلَا جَدْيٌ وَلَا عِجْلٌ وَلَا فَصِيلٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِالْأَسْنَانِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهَذِهِ لَا تُسَمَّى بِهَا.
وَأَمَّا قَدْرُهُ فَلَا يَجُوزُ الشَّاةُ وَالْمَعْزُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً سَمِينَةً تُسَاوِي شَاتَيْنِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُضَحَّى بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَنْ لَا يَجُوزَ فِيهِمَا الِاشْتِرَاكُ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي هَذَا الْبَابِ إرَاقَةُ الدَّمِ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّجْزِئَةَ؛ لِأَنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْغَنَمِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَمَّنْ لَا يَذْبَحُ مِنْ أُمَّتِهِ فَكَيْفَ ضَحَّى بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ أُمَّتِهِ؟ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
(فَالْجَوَابُ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الثَّوَابِ؛ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ ثَوَابَ تَضْحِيَتِهِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ لِأُمَّتِهِ لَا لِلْإِجْزَاءِ وَسُقُوطِ التَّعَبُّدِ عَنْهُمْ وَلَا يَجُوزُ بَعِيرٌ وَاحِدٌ وَلَا بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ سَبْعَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُجْزِي ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ- وَإِنْ زَادُوا عَلَى سَبْعَةٍ- وَلَا يُجْزِي عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ- وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ- وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْبَدَنَةُ تُجْزِي عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِي عَنْ سَبْعَةٍ» وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَهْلِ بَيْتٍ وَبَيْتَيْنِ» وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الذَّبْحِ وَأَنَّهُ فِعْلُ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ؛ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ عَنْ سَبْعَةٍ مُطْلَقًا فَيُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ بِمَنْزِلَةِ سَبْعِ شِيَاهٍ ثُمَّ جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِسَبْعِ شِيَاهٍ عَنْ سَبْعَةٍ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ فَكَذَا الْبَقَرَةُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ فَقَالَ الْبَقَرَةُ لَا تَجُوزُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ فَأَمَّا الْبَعِيرُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَنْ عَشَرَةٍ، وَرَوَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَدَنَةُ تُجْزِي عَنْ عَشَرَةٍ» وَنَوْعٌ مِنْ الْقِيَاسِ يُؤَيِّدُهُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْإِبِلَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ الْبَقَرِ؛ وَلِهَذَا فُضِّلَتْ الْإِبِلُ عَلَى الْبَقَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ فَتَفْضُلُ فِي الْأُضْحِيَّةَ أَيْضًا.
(وَلَنَا) أَنَّ الْأَخْبَارَ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي الظَّاهِرِ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ عَنْ سَبْعَةٍ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الزِّيَادَةِ اخْتِلَافٌ فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ الْقِيَاسِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي هَذَا الْبَابِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيمَا هُوَ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ عَنْ أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ بِأَنْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ فِي بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ السُّبْعُ فَالزِّيَادَةُ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ الْأَنْصِبَاءُ فِي الْقَدْرِ أَوْ اخْتَلَفَتْ؛ بِأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ النِّصْفُ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِآخَرَ السُّدُسُ بَعْدَ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ السُّبْعِ وَلَوْ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي خَمْسِ بَقَرَاتٍ أَوْ فِي أَكْثَرَ فَذَبَحُوهَا أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ بَقَرَةٍ سُبُعَهَا، وَلَوْ ضَحَّوْا بِبَقَرَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُمْ فَالْأَكْثَرُ أَوْلَى وَلَوْ اشْتَرَكَ ثَمَانِيَةٌ فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ لَمْ يُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْقَصُ مِنْ السُّبْعِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانُوا عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ عَلَى هَذَا.
وَلَوْ اشْتَرَكَ ثَمَانِيَةٌ فِي ثَمَانِيَةٍ مِنْ الْبَقَرِ فَضَحَّوْا بِهَا لَمْ تُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَقَرُ أَكْثَرَ لَمْ تُجْزِهِمْ، وَلَا رِوَايَةَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ وَإِنَّمَا قِيلَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ.
وَلَوْ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي سَبْعِ شِيَاهٍ بَيْنَهُمْ فَضَحَّوْا بِهَا- الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُجْزِئَهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْزِيهِمْ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ شَاتَيْنِ لِلتَّضْحِيَةِ فَضَحَّيَا بِهِمَا بِخِلَافِ عَبْدَيْنِ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَيْهِمَا كَفَّارَتَانِ فَأَعْتَقَاهُمَا عَنْ كَفَّارَتَيْهِمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ تَجْتَمِعُ فِي الشَّاتَيْنِ وَلَا تَجْتَمِعُ فِي الرَّقِيقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ فِي الشَّاةِ وَلَا يُجْبَرُ فِي الرَّقِيقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؟ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْأَوَّلِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، وَالْمَذْكُورُ جَوَابُ الْقِيَاسِ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنْ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ وَسَنَذْكُرُهَا فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ في التَّضْحِيَةِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ؛ وَهِيَ التَّضْحِيَةُ فَهِيَ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ ذَبْحَ كُلِّ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ وَنَوْعٌ يَخُصُّ التَّضْحِيَةَ؛ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ ذَبْحَ كُلِّ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ التَّضْحِيَةَ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ التَّضْحِيَةِ.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ فَمِنْهَا نِيَّةُ الْأُضْحِيَّةَ لَا تُجْزِي الْأُضْحِيَّةُ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْقُرْبَةِ وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ قُرْبَةً بِدُونِ النِّيَّةِ؛ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَمَلٌ هُوَ قُرْبَةٌ؛ وَلِلْقُرْبَةِ جِهَاتٌ مِنْ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَكَفَّارَةِ الْحَلْقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَيَكْفِيهِ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَى بِقَلْبِهِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُشَارِكَ الْمُضَحِّيَ- فِيمَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ- مَنْ لَا يُرِيدُ الْقُرْبَةَ رَأْسًا، فَإِنْ شَارَكَ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ، وَكَذَا هَذَا فِي سَائِرِ الْقُرَبِ سِوَى الْأُضْحِيَّةَ إذَا شَارَكَ الْمُتَقَرِّبَ مَنْ لَا يُرِيدُ الْقُرْبَةَ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْقُرْبَةِ كَمَا فِي دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ كُلُّهُمْ يُرِيدُونَ الْقُرْبَةَ؛ الْأُضْحِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ- لَا يُجْزِي وَاحِدًا مِنْهُمْ مِنْ الْأُضْحِيَّةَ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُجْزِي.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِيَّتِهِ لَا بِنِيَّةِ صَاحِبِهِ، فَعَدَمُ النِّيَّةِ مِنْ أَحَدِهِمْ لَا يَقْدَحُ فِي قُرْبَةِ الْبَاقِينَ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْقُرْبَةَ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ وَأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ؛ لِأَنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً مِنْ الْبَعْضِ لَا يَقَعُ قُرْبَةً مِنْ الْبَاقِينَ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ وَلَوْ أَرَادُوا الْقُرْبَةَ؛ الْأُضْحِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرَبِ أَجْزَأَهُمْ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقُرْبَةُ وَاجِبَةً أَوْ تَطَوُّعًا أَوْ وَجَبَتْ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ جِهَاتُ الْقُرْبَةِ أَوْ اخْتَلَفَتْ بِأَنْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ الْأُضْحِيَّةَ وَبَعْضُهُمْ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَبَعْضُهُمْ هَدْيَ الْإِحْصَارِ وَبَعْضُهُمْ كَفَّارَةَ شَيْءٍ أَصَابَهُ فِي إحْرَامِهِ وَبَعْضُهُمْ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَبَعْضُهُمْ دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا اتَّفَقَتْ جِهَاتُ الْقُرْبَةِ بِأَنْ كَانَ الْكُلُّ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الِاشْتِرَاكَ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ فِعْلٌ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ وَبَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَا بَعْضَ لَهُ إلَّا عِنْدَ الِاتِّحَادِ، فَعِنْدَ الِاتِّحَادِ جُعِلَتْ الْجِهَاتُ كَجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ لَا يُمْكِنُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِ مَرْدُودًا إلَى الْقِيَاسِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْجِهَاتِ- وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صُورَةً- فَهِيَ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكُلِّ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ الْعَقِيقَةَ عَنْ وَلَدٍ وُلِدَ لَهُ مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جِهَةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى- عَزَّ شَأْنُهُ- بِالشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَلَدِ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَوَادِرِ الضَّحَايَا وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ الْوَلِيمَةَ- وَهِيَ ضِيَافَةُ التَّزْوِيجِ- وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقَامُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى- عَزَّ شَأْنُهُ- عَلَى نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» فَإِذَا قَصَدَ بِهَا الشُّكْرَ أَوْ إقَامَةَ السُّنَّةِ فَقَدْ أَرَادَ بِهَا التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِهَ الِاشْتِرَاكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحَبَّ إلَيَّ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ذِمِّيًّا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ وَهُوَ يُرِيدُ اللَّحْمَ أَوْ أَرَادَ الْقُرْبَةَ فِي دِينِهِ- لَمْ يُجْزِهِمْ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْقُرْبَةُ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فَكَانَ مُرِيدًا لِلَّحْمِ، وَالْمُسْلِمُ لَوْ أَرَادَ اللَّحْمَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فَالْكَافِرُ أَوْلَى إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا أَوْ مُدَبَّرًا وَيُرِيدُ الْأُضْحِيَّةَ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ فَكَانَ نَصِيبُهُ لَحْمًا فَيَمْتَنِعُ الْجَوَازُ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مِمَّنْ يُضَحِّي عَنْ مَيِّتٍ جَازَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي بَدَنَةٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الذَّبْحِ فَرَضِيَ وَرَثَتُهُ أَنْ يُذْبَحَ عَنْ الْمَيِّتِ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَحَدُهُمْ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الذَّبْحُ، وَذَبْحُ الْوَارِثِ لَا يَقَعُ عَنْهُ؛ إذْ الْأُضْحِيَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ لَا تَجُوزُ فَصَارَ نَصِيبُهُ اللَّحْمَ، وَأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ جَوَازِ ذَبْحِ الْبَاقِينَ مِنْ الْأُضْحِيَّةَ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ اللَّحْمَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ عَنْ الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَصَدَّقَ عَنْهُ وَيُحَجُّ عَنْهُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَمَّنْ لَا يَذْبَحُ مِنْ أُمَّتِهِ- وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ- فَدَلَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يَجُوزُ أَنْ يُتَقَرَّبَ عَنْهُ فَإِذَا ذُبِحَ عَنْهُ صَارَ نَصِيبُهُ لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ ذَبْحِ الْبَاقِينَ.
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت أَبَا يُوسُفَ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ ذَلِكَ وَيُجْزِيهِمْ أَنْ يَذْبَحُوهَا عَنْهُمْ، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ: قُلْت لِأَبِي يُوسُفَ وَمَنْ نِيَّتُهُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا؟ قَالَ: لَا أَحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا شَيْئًا وَلَكِنْ لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: قَالَ أَرَأَيْت فِي رَجُلٍ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَأَشْرَكَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ حَتَّى اشْتَرَاهَا فَأَتَاهُ إنْسَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَشْرَكَهُ حَتَّى اسْتَكْمَلَ؛ يَعْنِي أَنَّهُ صَارَ سَابِعَهُمْ هَلْ يُجْزِي عَنْهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ اُسْتُحْسِنَ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا كَانَ أَحْسَنَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْغَنِيِّ إذَا اشْتَرَى بَقَرَةً لِأُضْحِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بِهَا وَإِنَّمَا يُقِيمُهَا عِنْدَ الذَّبْحِ مَقَامَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ بِالْفِعْلِ فِيمَا يُقِيمُهُ فِيهِ فَيَجُوزُ اشْتِرَاكُهُمْ فِيهَا وَذَبْحُهُمْ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا لِيُضَحِّيَ بِهَا فَقَدْ وَعَدَ وَعْدًا فَيُكْرَهُ أَنْ يُخْلِفَ الْوَعْدَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالشِّرَاءِ لِلْأُضْحِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ لِلْوُجُوبِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَدْ قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ الْغَنِيِّ إذَا أَشْرَكَ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ دِينَارًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاةً فَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ وَاشْتَرَى بِأَحَدِهِمَا شَاةً وَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ وَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُضَحَّى بِالشَّاةِ وَيُتَصَدَّقَ بِالدِّينَارِ» لِمَا أَنَّهُ قَصَدَ إخْرَاجَهُ لِلْأُضْحِيَّةِ كَذَا هَاهُنَا.
(وَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْأُضْحِيَّةَ مُقَارِنَةً لِلتَّضْحِيَةِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقِرَانِ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا فِي بَابِ الصَّوْمِ؛ لِتَعَذُّرِ قِرَانِ النِّيَّةِ لِوَقْتِ الشُّرُوعِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ.
(وَمِنْهَا) إذْنُ صَاحِبِ الْأُضْحِيَّةَ بِالذَّبْحِ إمَّا نَصًّا أَوْ دَلَالَةً إذَا كَانَ الذَّابِحُ غَيْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَقَعَ لِلْعَامِلِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَقَعُ لَهُ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا غَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ فَضَحَّى بِهَا عَنْ صَاحِبِهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَإِجَازَتِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَضْجَعَهَا وَشَدَّ قَوَائِمَهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَجَاءَ إنْسَانٌ فَذَبَحَهَا جَازَ اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُ دَلَالَةً لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَمَا هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَحِّيَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَيَجُوزُ بَعْدَ طُلُوعِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، غَيْرَ أَنَّ لِلْجَوَازِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ شَرْطًا زَائِدًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِيدِ جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْإِمَامُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ أُضْحِيَّتَهُ» وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ» وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هِيَ غُدْوَةٌ أَطْعَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا الذَّبْحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ» فَقَدْ رَتَّبَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذَّبْحَ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْقُرَى صَلَاةُ الْعِيدِ فَلَا يَثْبُتُ التَّرْتِيبُ فِي حَقِّهِمْ.
وَإِنْ أَخَّرَ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ حَتَّى يَتَنَصَّفَ النَّهَارُ، فَإِنْ اشْتَغَلَ الْإِمَامُ فَلَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ أَوْ تَرَكَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ حَلَّ الذَّبْحُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْإِمَامُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، وَالتَّرْتِيبُ شَرْطٌ فِي الْأَدَاءِ لَا فِي الْقَضَاءِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي فِي الْمِصْرِ فِي مَوْضِعَيْنِ بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ خَلَّفَ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ فِي الْجَامِعِ وَخَرَجَ هُوَ بِالْآخَرِينَ إلَى الْمُصَلَّى- وَهُوَ الْجَبَّانَةُ- ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى أَهْلُ أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ جَازَ ذَبْحُ الْأَضَاحِيّ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا لِجَوَازِ الْأُضْحِيَّةَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ فَاعْتِبَارُ صَلَاةِ أَهْلِ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ، وَاعْتِبَارُ صَلَاةِ أَهْلِ الْمَوْضِعِ الْآخَرِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ فَلَا يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ بِالشَّكِّ بَلْ يُحْكَمُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ احْتِيَاطًا.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشَّرْطَ صَلَاةُ الْعِيدِ، وَالصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ تُجْزِي عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَيْهَا جَازَ وَيَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَجَازَ، وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا تَرْتِيبُ الذَّبْحِ عَلَى الصَّلَاةِ مُطْلَقًا وَقَدْ وُجِدَتْ وَلَوْ سَبَقَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ، وَقِيلَ لَا رِوَايَةَ فِي هَذَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا كَصَلَاةِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ فِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ كَمَا إذَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ؛ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَائِزًا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ صَلَاةُ مَنْ فِي الْجَبَّانَةِ وَإِنَّمَا يُصَلِّي مَنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ لِعُذْرٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَوَجْهُهَا مَا ذَكَرْنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِصَلَاةِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ هِيَ الْأَصْلُ بِدَلِيلِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْإِمَامُ إلَى الْجَبَّانَةِ لِضَرُورَةِ أَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَتَّسِعُ لَهُمْ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ.
وَلَوْ ذَبَحَ وَالْإِمَامُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ وَكَذَا إذَا ضَحَّى قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، وَلَوْ ذَبَحَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ قَالُوا- عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اللَّهُ- يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُصَلِّي مِنْ الصَّلَاةِ بِصِفَةٍ فَرْضٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ.
وَلَوْ ضَحَّى قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْخُطْبَةِ أَوْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَتَّبَ الذَّبْحَ عَلَى الصَّلَاةِ لَا عَلَى الْخُطْبَةِ فِيمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فَدَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْخُطْبَةِ.
وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَذَبَحَ رَجُلٌ أُضْحِيَّتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ مِنْ الْغَدِ وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعِيدَ الْأُضْحِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْأُضْحِيَّةَ وَقَعَتَا قَبْلَ الْوَقْتِ فَلَمْ يَجُزْ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَ النَّاسُ يُعِيدُ بِهِمْ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَهَلْ يَجُوزُ مَا ضَحَّى قَبْلَ الْإِعَادَةِ؟ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ ذَبَحَ بَعْدَ صَلَاةٍ يُجِيزُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي عِنْدَهُ فَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً عِنْدَهُ، فَعَلَى هَذَا يُعِيدُ الْإِمَامُ وَحْدَهُ وَلَا يُعِيدُ الْقَوْمُ وَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعِيدُ بِهِمْ الصَّلَاةَ وَلَا يَجُوزُ مَا ضَحَّى قَبْلَ إعَادَةِ الصَّلَاةِ.
وَإِنْ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ الْإِمَامِ ثُمَّ عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُعَادُ، وَقَدْ جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ عَنْ الْمُضَحِّي؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ قَدْ جَازَتْ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَتَرْكُ إعَادَتِهَا بَعْدَ تَفَرُّقِ النَّاسِ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُنَادِيَ النَّاسَ أَنْ يَجْتَمِعُوا ثَانِيًا، وَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ أَنَّهُ تَبْطُلُ أَضَاحِيهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُعَادُ الْأُضْحِيَّةُ وَلَا تُعَادُ بِهِمْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ إعَادَةَ الْأُضْحِيَّةَ أَيْسَرُ مِنْ إعَادَةِ الصَّلَاةِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ يُنَادِي بِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا وَيُعِيدُ بِهِمْ الصَّلَاةَ، قَالَ الْبَلْخِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَا تُجْزِي ذَبِيحَةُ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ إعَادَةِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ قَدْ زَالَتْ فَتُجْزِي ذَبِيحَةُ مَنْ ذَبَحَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَسَقَطَتْ عَنْهُمْ الصَّلَاةُ، وَلَوْ شَهِدَ نَاسٌ عِنْدَ الْإِمَامِ- بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ وَبَعْدَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ- أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُضَحُّوا وَيَخْرُجُ الْإِمَامُ مِنْ الْغَدِ فَيُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَإِنْ عُلِمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ فَشُغِلَ الْإِمَامُ عَنْ الْخُرُوجِ أَوْ غَفَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا يُصَلِّي بِهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُضَحِّيَ حِينَ يُصَلِّي الْإِمَامُ إلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، فَإِذَا زَالَتْ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ ضَحَّى النَّاسُ، وَإِنْ ضَحَّى أَحَدٌ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ.
وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَذَبَحَ رَجُلٌ أُضْحِيَّتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لِلْإِمَامِ أَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ كَانَ بِالْأَمْسِ جَازَتْ الصَّلَاةُ وَجَازَ لِلرَّجُلِ أُضْحِيَّتُهُ.
وَلَوْ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فِي مِصْرٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا إمَامٌ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ يُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ فَالْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ النَّحْرِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَنْزِلَةِ الْقُرَى الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا، وَلَكِنْ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ نَحْرِهِمْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ أَدَاؤُهَا الْعَارِضُ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْأَصْلِ؛ كَمَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ حَاضِرًا فَلَمْ يُصَلِّ لِعَارِضِ أَسْبَابٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ كَذَا هَاهُنَا.
وَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ حَصَلَ فِي وَقْتِهِ فَيُجْزِيهِ وَاَللَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.
هَذَا إذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فِي الْمِصْرِ وَالشَّاةُ فِي الْمِصْرِ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْمِصْرِ وَالشَّاةُ فِي الرُّسْتَاقِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يُصَلَّى فِيهِ وَقَدْ كَانَ أَمَرَ أَنْ يُضَحُّوا عَنْهُ فَضَحَّوْا بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا تُجْزِيهِ، وَعَلَى عَكْسِهِ لَوْ كَانَ هُوَ فِي الرُّسْتَاقِ وَالشَّاةُ فِي الْمِصْرِ وَقَدْ أَمَرَ مَنْ يُضَحِّي عَنْهُ فَضَحَّوْا بِهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا لَا تُجْزِيهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا مَكَانُ الشَّاةِ لَا مَكَانُ مَنْ عَلَيْهِ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- فِي النَّوَادِرِ وَقَالَ: إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى مَحَلِّ الذَّبْحِ وَلَا أَنْظُرُ إلَى مَوْضِعِ الْمَذْبُوحِ عَنْهُ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الذَّبْحُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمَذْبُوحُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ هُوَ الْقُرْبَةُ فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ فِعْلِهَا لَا مَكَانُ الْمَفْعُولِ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ فِي مِصْرٍ وَأَهْلُهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ يُضَحُّوا عَنْهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ مَكَانَ الذَّبِيحَةِ فَقَالَ: يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ لَا يُضَحُّوا عَنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ، وَإِنْ ضَحَّوْا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ لَمْ يُجْزِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: انْتَظَرْتُ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا وَإِنْ شَكُّوا فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْمِصْرِ الْآخَرِ انْتَظَرْتُ بِهِ الزَّوَالَ فَعِنْدَهُ لَا يَذْبَحُونَ عَنْهُ حَتَّى يُصَلُّوا فِي الْمِصْرَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ وَقَعَ لَهُمْ الشَّكُّ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْمِصْرِ الْآخَرِ لَمْ يَذْبَحُوا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ فَإِذَا زَالَتْ ذَبَحُوا عَنْهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ فِيمَا قُلْنَا اعْتِبَارَ الْحَالَيْنِ حَالَ الذَّبْحِ وَحَالَ الْمَذْبُوحِ عَنْهُ فَكَانَ أَوْلَى وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الذَّبْحِ، وَالْقُرُبَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ يُعْتَبَرُ وَقْتُهَا فِي حَقِّ فَاعِلِهَا لَا فِي حَقِّ الْمَفْعُولِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ نُهُرِهَا وَلَيَالِيهَا؛ وَهُمَا لَيْلَتَانِ: لَيْلَةُ الْيَوْمِ الثَّانِي وَهِيَ لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ، وَلَيْلَةُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهِيَ لَيْلَةُ الثَّانِي عَشَرَ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا لَيْلَةُ الْأَضْحَى وَهِيَ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ، وَذِكْرُ الْأَيَّامِ يَكُونُ ذِكْرَ اللَّيَالِي لُغَةً، قَالَ اللَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا} وَقَالَ عَزَّ شَأْنُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وَالْقِصَّةُ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا اللَّيْلَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَتْبَعَهَا النَّهَارُ الْمَاضِي وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ النَّهَارَ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَإِذَا جُعِلَتْ تَابِعَةً لِلنَّهَارِ الْمَاضِي لَا تَتْبَعُ النَّهَارَ الْمُسْتَقْبَلَ فَلَا تَدْخُلُ فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَتَدْخُلُ اللَّيْلَتَانِ بَعْدَهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الذَّبْحُ بِاللَّيْلِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ لِلتَّضْحِيَةِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَاَللَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ التَّضْحِيَةِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: سَلَامَةُ الْمَحَلِّ عَنْ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ؛ فَلَا تَجُوزُ الْعَمْيَاءُ وَلَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَهِيَ الَّتِي لَا تَقْدِرُ تَمْشِي بِرِجْلِهَا إلَى الْمَنْسَكِ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي وَهِيَ الْمَهْزُولَةُ الَّتِي لَا نِقْيَ لَهَا وَهُوَ الْمُخُّ، وَمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَاَلَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا فِي الْخِلْقَةِ.
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَيَكُونُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يُجْزِي وَيُجْزِي السَّكَّاءُ وَهِيَ صَغِيرَةُ الْأُذُنِ، وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعَةُ إحْدَى الْأُذُنَيْنِ بِكَمَالِهَا، وَاَلَّتِي لَهَا أُذُنٌ وَاحِدَةٌ خِلْقَةً.
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّرُوطِ مَا رُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُجْزِي مِنْ الضَّحَايَا أَرْبَعٌ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» أَيْ تَأَمَّلُوا سَلَامَتَهُمَا عَنْ الْآفَاتِ.
وَرُوِيَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ»، وَلَوْ ذَهَبَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دُونَ بَعْضٍ مِنْ الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ وَالذَّنَبِ وَالْعَيْنِ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ كَثِيرًا يَمْنَعُ جَوَازُ التَّضْحِيَةِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذْ الْحَيَوَانُ لَا يَخْلُو عَنْهُ عَادَةً، فَلَوْ اُعْتُبِرَ مَانِعًا لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ وَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ، رَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأَصْلِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَهَبَ الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ جَازَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَجُوزُ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَهَبَ الثُّلُثُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَكَرْت قَوْلِي لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: قَوْلِي مِثْلُ قَوْلِك، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ مِنْ الذَّاهِبِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ.
وَرَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ الرُّبُعُ لَمْ يُجْزِهِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ فَمَا كَانَ مُضَافُهُ أَقَلَّ مِنْهُ يَكُونُ كَثِيرًا وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ يَكُونُ قَلِيلًا إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إذَا كَانَا سَوَاءً احْتِيَاطًا لِاجْتِمَاعِ جِهَةِ الْجَوَازِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بَقَاءَ الْأَكْثَرِ لِلْجَوَازِ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَرُوِيَ: «عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْعَضْبَاءِ» قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: الْعَضْبَاءُ الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا، فَقَدْ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَكْثَرَ، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الرُّبُعِ كَثِيرًا فَلِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْكَثِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْحَلْقِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَفِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ أَوْلَى.
وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ كَثِيرًا فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الثُّلُثَ كَثِيرًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِهِ قَلِيلًا فَاعْتِبَارُهُ بِالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَلَمْ يُجَوِّزْ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَدَلَّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ لَا يَكُونُ كَثِيرًا وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا فَإِنْ كَانَتْ تَرْعَى وَتَعْتَلِفُ جَازَتْ وَإِلَّا فَلَا، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَمْنَعُهَا عَنْ الِاعْتِلَافِ تُجْزِيهِ وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهَا عَنْ الِاعْتِلَافِ إلَّا أَنْ يَصُبَّ فِي جَوْفِهَا صَبًّا لَمْ تُجْزِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ لَا تُجْزِي سَوَاءٌ اعْتَلَفَتْ أَوْ لَمْ تَعْتَلِفْ، وَفِي قَوْلٍ إنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَسْنَانِهَا لَا تُجْزِي كَمَا قَالَ فِي الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ وَالذَّنَبِ، وَفِي قَوْلٍ إنْ بَقِيَ مِنْ أَسْنَانِهَا قَدْرُ مَا تَعْتَلِفُ تُجْزِي وَإِلَّا فَلَا.
وَتَجُوزُ الثَّوْلَاءُ وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُهَا عَنْ الرَّعْيِ وَالِاعْتِلَافِ فَلَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى هَلَاكِهَا فَكَانَ عَيْبًا فَاحِشًا وَتَجُوزُ الْجَرْبَاءُ إذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَإِنْ كَانَتْ مَهْزُولَةً لَا تَجُوزُ وَتُجْزِي الْجَمَّاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا خِلْقَةً، وَكَذَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ تُجْزِي لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا «عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ الْقَرْنِ فَقَالَ: لَا يَضُرُّك أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ هَمَذَانَ جَاءَ إلَى سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْبَقَرَةُ عَنْ كَمْ؟ قَالَ: عَنْ سَبْعَةٍ ثُمَّ قَالَ: مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ؟ قَالَ: لَا ضَيْرَ ثُمَّ قَالَ: عَرْجَاءُ؟ فَقَالَ: إذَا بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ، ثُمَّ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ-: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ».
فَإِنْ بَلَغَ الْكَسْرُ الْمُشَاشَ لَا تَجْزِيهِ، وَالْمُشَاشُ: رُءُوسُ الْعِظَامِ مِثْلُ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ وَتُجْزِي الشَّرْقَاءُ وَهِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ طُولًا؛ وَمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ» فَالْخَرْقَاءُ هِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ وَالْمُقَابَلَةُ هِيَ الَّتِي يُقْطَعُ مِنْ مَقْدَمِ أُذُنِهَا شَيْءٌ وَلَا يُبَانُ بَلْ يُتْرَكُ مُعَلَّقًا وَالْمُدَابَرَةُ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ بِمُؤَخَّرِ الْأُذُنِ مِنْ الشَّاةِ، فَالنَّهْيُ فِي الشَّرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، وَفِي الْخَرْقَاءِ عَلَى الْكَثِيرِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ فِي حَدِّ الْكَثِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا بَأْسَ بِمَا فِيهِ سِمَةٌ فِي أُذُنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي الشَّاةِ، وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ يَسِيرٌ أَوْ لِأَنَّ السِّمَةَ لَا يَخْلُو عَنْهَا الْحَيَوَانُ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا.
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ أُضْحِيَّةً وَهِيَ سَمِينَةٌ فَعَجِفَتْ عِنْدَهُ حَتَّى صَارَتْ بِحَيْثُ لَوْ اشْتَرَاهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ تُجْزِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّ الْمُوسِرَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا أَقَامَ مَا اشْتَرَى لَهَا مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا نَقَصَتْ لَا تَصْلُحُ أَنْ تُقَامَ مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ فَبَقِيَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِحَالِهِ.
وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلَا أُضْحِيَّةَ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ الشَّاةُ الْمُشْتَرَاةُ لِلْقُرْبَةِ فَكَانَ نُقْصَانُهَا كَهَلَاكِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُضْحِيَّةً لَا تَجُوزُ هَذِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِيجَابِهِ فَصَارَ كَالْغَنِيِّ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ-.
وَلَوْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ أَعْوَرَتْ عِنْدَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهَا كُلُّهَا أَوْ أَلْيَتُهَا أَوْ ذَنَبُهَا أَوْ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَمْشِيَ لَا تُجْزِي عَنْهُ، وَعَلَيْهِ مَكَانَهَا أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْفَقِيرِ.
وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ عِنْدَهُ أَوْ سُرِقَتْ، وَلَوْ قَدَّمَ أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا فَاضْطَرَبَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَذْبَحُهَا فِيهِ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا ثُمَّ ذَبَحَهَا عَلَى مَكَانِهَا أَجْزَأَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا انْقَلَبَتْ مِنْهُ الشَّفْرَةُ فَأَصَابَتْ عَيْنَهَا فَذَهَبَتْ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا عَيْبٌ دَخَلَهَا قَبْلَ تَعْيِينِ الْقُرْبَةِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ حَالِ الذَّبْحِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِأَنَّ الشَّاةَ تَضْطَرِبُ فَتَلْحَقُهَا الْعُيُوبُ مِنْ اضْطِرَابِهَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ عَالَجَ أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا فَكُسِرَتْ أَوْ أَعْوَرَتْ فَذَبَحَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوْ مِنْ الْغَدِ فَإِنَّهَا تُجْزِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ لَمَّا لَمْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْحَالِ لَوْ ذَبَحَهَا فَكَذَا فِي الثَّانِي كَالنُّقْصَانِ الْيَسِيرِ، وَاَللَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.
وَالثَّانِي مِلْكُ الْمَحَلِّ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَحَّى مِلْكَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ وَلَا قُرْبَةَ فِي الذَّبْحِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اغْتَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ فَضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَلَا عَنْ صَاحِبِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا مَذْبُوحَةً وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ فَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ عَنْ التَّضْحِيَةِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ بِأُخْرَى لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ ضَمَّنَهُ صَاحِبُهَا قِيمَتَهَا حَيَّةً فَإِنَّهَا تُجْزِي عَنْ الذَّابِحِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَالِاسْتِنَادِ فَصَارَ ذَابِحًا شَاةً هِيَ مِلْكُهُ فَتُجْزِيهِ لَكِنَّهُ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ وَقَعَ مَحْظُورًا فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا تُجْزِي عَنْ الذَّابِحِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تُمْلَكُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ.
وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ كَانَ اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَحَّاهَا عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الشَّاةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِأَنْ اشْتَرَى شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا فَضَحَّى بِهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ إنْ أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ مَذْبُوحَةً لَا تُجْزِي عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى مَا دَامَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِنْ مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَى الذَّابِحِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ تِلْكَ الشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ وَالْعَدَمَ بِمَنْزِلَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ بَاعَهَا حَيْثُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ قَدْ صَحَّ لِوُجُودِ الْمِلْكِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا جَازَ الذَّبْحُ عِنْدَنَا كَمَا فِي الْغَصْبِ.
وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا شَاةً يُضَحِّي بِهَا الْمُسْتَوْدَعُ عَنْ نَفْسِهِ يَوْمَ النَّحْرِ فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ وَرَضِيَ بِهَا فَأَخَذَهَا فَإِنَّهَا لَا تُجْزِي الْمُسْتَوْدَعَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، بِخِلَافِ الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَحَقَّةِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ هاهنا هُوَ الذَّبْحُ وَالْمِلْكُ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ- وَهُوَ الذَّبْحُ- فَكَانَ الذَّبْحُ مُصَادِفًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَا يُجْزِيهِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ كَانَ ضَامِنًا قَبْلَ الذَّبْحِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ السَّابِقُ، فَعِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ أَوْ أَدَائِهِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَصْبُ فَالذَّبْحُ صَادَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَجَازَ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْعَارِيَّةُ وَالْإِجَارَةِ بِأَنْ اسْتَعَارَ نَاقَةً أَوْ ثَوْرًا أَوْ بَعِيرًا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ فَضَحَّى بِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ سَوَاءٌ أَخَذَهَا الْمَالِكُ أَوْ ضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُهَا بِالذَّبْحِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ، وَلَوْ كَانَ مَرْهُونًا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ كَمَا فِي الْغَصْبِ بَلْ أَوْلَى.
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَصَّلَ فِي الرَّهْنِ تَفْصِيلًا لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ: إنْ كَانَ قَدْرُ الرَّهْنِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ يَجُوزُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَبَعْضُهُ أَمَانَةً، فَفِي قَدْرِ الْأَمَانَةِ إنَّمَا يَضْمَنُهُ بِالذَّبْحِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً بَيْعًا فَاسِدًا فَقَبَضَهَا فَضَحَّى بِهَا جَازَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً، إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّ الذَّبْحَ لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ؛ فَإِنْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُضَحِّي وَإِنْ أَخَذَهَا مَذْبُوحَةً فَعَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِمِقْدَارِ الْقِيمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ لَهُ شَاةٌ هِبَةً فَاسِدَةً فَضَحَّى بِهَا فَالْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً وَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ وَيَأْكُلُ مِنْهَا وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا وَاسْتَرَدَّ قِيمَةَ النُّقْصَانِ وَيَضْمَنُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قِيمَتَهَا فَيَتَصَدَّقُ بِهَا إذَا كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ.
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ لَوْ وُهِبَ شَاةً مِنْ رَجُلٍ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَضَحَّى بِهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا اسْتَرَدُّوا عَيْنَهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوهُ قِيمَتَهَا فَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فَإِذَا رَدَّهَا فَقَدْ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً بِثَوْبٍ فَضَحَّى بِهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِالثَّوْبِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الشَّاةِ وَلَا يَتَصَدَّقُ الْمُضَحِّي وَيَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا نَاقِصَةً مَذْبُوحَةً، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ أَكْثَرَ يَتَصَدَّقُ بِالثَّوْبِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِالثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ أَكْثَرَ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَةِ الشَّاةِ لِأَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فَيَرُدُّ مَا أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِثَمَنِ ذَلِكَ الْقَعَد مِنْ قِيمَتِهَا فَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا، وَلَوْ وَجَدَ بِالشَّاةِ عَيْبًا فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَهَا وَرَدَّ الثَّمَنَ وَيَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ إلَّا حِصَّةَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ حِصَّةَ النُّقْصَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ وَرَدَّ حِصَّةَ الْعَيْبِ وَلَا يَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْقُرْبَةِ مَا ذُبِحَ وَقَدْ ذُبِحَ نَاقِصًا إلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ هَذَا الْعَيْبِ عَدْلًا لِلصَّيْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ لِمَا نَذْكُرُ.
وَلَوْ وُهِبَ لِرَجُلٍ شَاةٌ فَضَحَّى بِهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَجْزَأَتْهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ، فَلَوْ أَنَّهُ ضَحَّى بِهَا ثُمَّ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَرْجِعَ لَهُ أَجْزَأَتْهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ فَلَوْ أَنَّهُ ضَحَّى بِهَا ثُمَّ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَهُ فَإِذَا ذَبَحَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ أَوْ أَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهَا؛ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَبْدَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْوَاهِبِ عَنْ الرُّجُوعِ، كَذَا هَاهُنَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الذَّبْحَ نُقْصَانٌ وَالنُّقْصَانُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الشَّاةَ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فَصَارَ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْهِبَةِ، وَلَوْ وَهَبَهَا أَوْ اسْتَهْلَكَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
هَذَا وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ فَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْهِبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَهَا وَلِأَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً لِغَيْرِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ بِقَضَاءٍ وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَفْتَرِقُ الْجَوَابُ بَيْنَ مَا يَجِبُ صَدَقَةً وَبَيْنَ مَا لَا يَجِبُ وَفِي الْفُصُولِ الْأُوَلِ يَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ وَهَبَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ شَاةً لِإِنْسَانٍ وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَضَحَّاهَا ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمَوْهُوبَ لَهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا مَذْبُوحَةً فَإِنْ ضَمَّنُوهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَغْصُوبَةً فَضُمِّنَ قِيمَتَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذِهِ أَوْلَى، وَإِنْ أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقِيَاسُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَدْ ضَمِنَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً ثُمَّ سَقَطَ عَنْهُ ثُلُثُ قِيمَتِهَا حَيَّةً يَأْخُذُ الْوَرَثَةُ مِنْهُ ثُلُثَيْ الشَّاةِ مَذْبُوحَةً فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِذَلِكَ وَقَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ بِثُلُثَيْ الشَّاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَمَّا أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا مَذْبُوحَةً فَقَدْ أَبْرَءُوا الْمَوْهُوبَ لَهُ مِنْ فَضْلِ مَا بَيْنَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً إلَى ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ إلَّا ثُلُثَا قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً.
وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الضَّحَايَا عَنْ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَرَثَةَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمِنُوا ثُلُثَيْ قِيمَةِ الشَّاةِ وَسَلَّمُوا لَهُ لَحْمَهَا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا ثُلُثَيْ لَحْمِهَا وَكَانُوا شُرَكَاءَهُ فِيهَا، فَإِنْ ضَمِنُوا ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ وَإِنْ شَارَكُوهُ فِيهَا وَأَخَذُوا ثُلُثَيْ لَحْمِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً وَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ ذَبَحَهَا وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَاَللَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.